القائمة الرئيسية

الصفحات

حفريات في الذاكرة المزار :مواسم الفرجة




مواسم الفرجة


        ترسو سفينة الحفريات هذا اليوم على ميناء رحب، لا تكفي فيه حلقة و احدة للإحاطة بكل محتوى حاوياته؛ ميناء مواسم الفرجة و المتعة، مواسم الفن و الجمال، مواسم عيساوة، إسمكان، أعياد العرش، بيلماون، ...

عيساوة
        يبدأ موسم الفرجة العيساوية مباشرة بعد انقضاء موسم سيدي بيبي السنوي، في الأسابيع الأولى من شهر غشت، حيث يحج المزاريون بعد صلاة العصر في اليوم الموعود إلى سيدي بوزيد ، ليلتقي الزوار بالقرب من شجرة الأركان العملاقة المستلقية على جانبها كجثة هامدة تستقبل القبلة؛ كانت تحيط بها بضع نخلات يستظل الزوار تحتها من لفح شمس الصيف.
        يسوق الموكب الرسمي للعيساويين بقرة يُبتر جزء من أذنها في عين المكان، لتنطلق معه زغردات النساء، و تُدق الطبول، ويُنفخ في المزامير، و تَرتج الدفوف لتتراقص بعض الأجساد بلا نظام، فيرتفع بعضها و يهوي بعضها، و تتطاوح يمنة و يسرة و امام و خلف، و ترتطم أحيانا كأمواج بحر تحت رحمة عاصفة هوجاء؛ يخيل إليك أنّ عالم الجن و الانس التحما فصارا عالما واحدا يفيض بالرعب خصوصا في عقول الصغار.
        ينطلق الموكب البهيج شمالا صوب الدوار ،إلى قاعة الحفلات التي لم تكن حينها سوى ساحة رحبة يتوسطها بيت أو غرفة بيضاء شُيدت بالتراب و بعض التبن و الماء. لتفترش الجوقة العيساوية الحصير أو التراب ، و تقدم لزوارها وجبة فولكلورية صوفية دسمة تختلط فيها أصوات المديح بالصراخ ، و قد يغمى على بعض المستمعين خصوصا من النساء ،كما و تُحدث لدى بعضهم انفعالا خاصا لتأثير تلك الشطحات الصوفية و ألحانها الاخاذة عليهم. تأخذ الوجبة الدسمة زوارها إلى حدود مغرب الشمس ،ليتجدد اللقاء مساء بعد صلاة العشاء.
        تجلس النساء إلى جدران المنازل المجاورة للساحة مفترشات الحصير أو الأحجار أو الكراسي الخشبية الصغيرة التي يحضرها بعضهن؛ هؤلاء النسوة التي لا يظهر من وجوههن بفعل النقاب و الملاحف إلا العيون التي تنظر بإعجاب إلى شطحات العيساويين و جدبهم و تطاوحهم؛ بينما يتسمر أغلب الرجال واقفين ويحيطون بالساحة من كل جانب ، و الأطفال يجلس بعضهم أرضا ،أو يمضي ركضا جيئة و ذهابا خلف الرجال. لم يكن غريبا أن تندلع بعض المشادات الكلامية و الجسمية بين بعض الشباب، غالبا ما تنتهي بسلام مالم تُستل السكاكين من مخابئها. و ما إن تبدأ هذه المشاحنات التي يصل صداها إلى مركز الحفل ، حتى تبدأ النساء بالانسلال في جماعات و العودة إلى بيوتهن في سلام و امان، خوفا من تتطور الامور إلى ما لا تحمد عقباه.
يستمر هذا الموسم ثلاثة أيام، ليبدأ يوم السبت عصرا ببتر أذن البقرة، و ينتهي يوم الاثنين مساء ليختتم بالدعاء للبلاد و العباد. المثير في هذه الحفلات بعض الطقوس الغريبة التي يؤديها العيساويين الأقحاح، حيث يلتهم بعضهم أوراق الصبار الضخمة و المشوكة في لذة عجيبة، وقد يتمرغ بعضهم عليها دون اكتراث بأشواكها. و يشرب بعضهم الماء الساخن من مقراج تخرج سنابل البخار من فيه، يشربون هذا الماء كما لو أنهم يشربون عصيرا منعشا. و يغرز بعضهم الإبر في خدودهم حتى تخرج إلى عمق أفواههم في نشوة غريبة و دون أدنى إشارة بوجود الألم، و كأنهم يخيطون جلد شاة مسلوخة. و الأغرب من ذلك أن تلطم جبهتك، أو تضرب يدك بسكين حادة و أنت ترقص كالسكران؛ أو أن يتم في وحشية مقززة تمزيق جذي أو خروف بين أيدي هؤلاء الدراويش، دون سكين، فقط عن طريق الجر والشد ، فيُلتهم لحمه نيئا كما تلتهم ذئاب نحيلة جائعة فريسة ضعيفة لا حول لها و لا قوة وسط غابة موحشة، و يُشرب دمه طازجا ، و تلطخ جلابيبهم بتلك الدماء...
هذه الطقوس التي يشمئز منها أغلب الناس ،يعتبرها بعضٌ دخيلة على هذه الفرقة الصوفية ، و لم تكن يوما ديدانا للشيخ الكامل " محمد بن عيسى المغربي"، الذي تنتسب إليه الفرقة و يرجع إليه تأسيسها. كانت الفرقة و لا تزال في ربوع المغرب تعتمد على الجدبة كمون أساسي ، و تُؤدَّى الألحان و الاناشيد بالدفوف و الطبول و أبواق النفير، و كان تمة محاولات لتحسينها و تطويرها فأدخلت موسيقى الألة الاندلسية و الملحون في بعض المناطق من المغرب. و صارت لها اليوم مهرجانات وطنية و محلية تجتمع فيها الفرق من كل المناطق ،و يحج إليها الناس من صوب و حدب.

تعليقات

التنقل السريع