شيخ بنكهة النعناع
جلست كثيرا أمام الشاشة
أفكر من أين أبدأ هذا الحفر؟... فلم تكن الكتابة عن هذا النموذج بالأمر اليسير. قد
يكون الدكتور المتقي عبد العالي ـ النموذج الأول ـ يتحدث عنه القلم قبل أن تفكر في الكتابة عنه، و
تجد من المداخل و الأبواب ما تفتتح به مقالك و ما تنهي به حديثك، و لكن الكتابة عن الشيخ أمر أخر، و شيء أخر، و لغة أخرى ... .
أقول أنني فكرت في أكثر من سيناريو و مدخل و مخرج ،مع ذلك لم أكن أجرؤ في الكثير
من الأحيان على اتخاذ القرار و الاختيار،و كي لا أطيل على من ينتظر سبب هذا التردد،
فأنا أيضا لا أدري السبب
!!
على العموم ؛ ينتسب الشيخ
إلى عائلة اتخذت لقبها مما تعرف به بلدتنا المزار على صعيد العمالة و الإقليم، إنه
" النعناع" ،ذلك النبات العطري الفاتح الاخضرار، و الذي كانت تفوح
رائحته من الحقول المتراصة في جنبات الطرق المؤدية إلى المزار .و يُحكى أن والده ـ
رحمة الله عليه ـ احتار في الكنية التي سيتخذها عنوانا بارزا لعائلته لما أراد
إعداد وثائقه التعريفية لأول مرة،سأله الموظف في الجماعة عن عمله، و أخبره أنه
فلاح يزرع النعناع و يتاجر فيه، فلم يكن من الكاتب إلا أن أضاف ياء النسبة إلى "
النعناع" لتصبح "النعناعي " هي كنية شيخنا محمد النعناعي.قد تكون
هذه القصة هي القصة الوحيدة المتداولة في أصل التسمية ،و لكن لا تأكيد على صدقها
أو زيفها… ننتظر التوضيح من الشيخ.
مما يلفت النظر عند الشيخ
أنه كان رجلا متعدد جوانب المعرفة و الثقافة، فلم يقتصر على علم بعينه، ولم يحبس
نفسه في دائرة الشريعة و القانون حيث حصل على الإجازة و دبلوم الدراسات العليا
بكلية المزار، ولكنه يخوض في الفلسفة و التاريخ ،و يتقن بعض أعمال الفلاحة . تلقى
بعض علومه بدار الحديث الحسنية على يد علماء مغاربة معروفين وطنيا و دوليا من أمثال
: الدكتور طه عبد الرحمان ، الدكتور أحمد التوفيق وزير الأوقاف و الشؤون
الإسلامية، الدكتور إبراهيم مشروح و آخرين. حصل بهذه
الدار على دبلوم أخر للدراسات العليا .
مما يميز الشيخ أيضا
،بالإضافة إلى وسامته وسعة صدره و جمال أخلاقه ، صوته الشجي الندي، مزمار من
مزامير داود... هذا الصوت الذي طالما ما أطربنا به منشدا قصائد في المديح والسماع
الصوفي ، ينشدها كلما دعت الضرورة أو الفرصة. وغالبا ما يطيب لنا هذا الطرب ليلا
فوق تلة رملية قريبة من ملعب" سيدي بوزيد" القديم، تلك التلة التي كانت
ترقص فيها ليلا أشباح خيالية على إيقاع تغاريد الشيخ، في جو هادئ وديع و رائع،.
هذه بعض أبيات أشهر القصائد التي ارتبطت في نفوسنا بهذا المكان:
يا
غصن نقى مكللا بالذهب
إن
كنت أسأت في هواكم أدبي
يا
مالك مهجتي ترفق بالله
|
*
* *
* * *
* * *
|
أفديك
من الردى بأمي وأبي
العصمة
لا تكون إلا لنبي
لا
بد لكل عاشق من زلة
|
الصوت الشجي للشيخ يصدح بالقرآن أحيانا، وقد مضى على استماعي إليه أول مرة أزيد
من عشرين سنة تقريبا ؛و ذلك لما كنت تلميذا في المرحلة الإعدادية، و كان هو عامئذ تلميذا
في المرحلة الثانوية، و شارك وقتها في مسابقة لتجويد القرآن في ساحة
إعدادية وادي سوس .
يتقن الشيخ ضرب الأمثال، و لا تجد لديه ترددا في اختيار التشبيهات المناسبة
لبعض المواقف التي تصادفه، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ حكى بلسانه أنه حين حصل على
(*) 205 في السنة الأخيرة من الإجازة. سأله الطلبة في حفلة التخرج بمقر جمعية بايت
ملول عن مستقبله ،أيستمر و يتابع الدراسة؟ أم يبحث عن عمل و كفى؟ وكعادته أتحف
الجميع بتشبيه الموقف بقرار المرأة التي وضعت مولودا للتو ،حين تُسأل هل تحمل وتلد
من جديد؟ إذ غالبا ـ يقول الشيخ ـ" لا تفكر في العودة،ولكن بعد مدة تنسى كل
ما قاسته من آلام و أوجاع، فتعود للحمل من جديد...". كذلك واقعا فعل الشيخ ،و
تابع دراسته فحصل على دبلومين للدراسات العليا كما سبق و ذكرت؛ ولم يمنعه عمله ـ
حاليا ـ كأستاذ للتعليم الثانوي التأهيلي أن يُعد رسالته للدكتورة بدار الحديث
الحسنية. و في انتظار أن ينتهي منها و يناقشها ، نسأل الله أن يُوفقه لما يحبه و
يرضاه !!
الشيخ النعناعي تحفة نادرة،لها مكان خاص بين الحفريات المزارية، بل يكاد
يمتاز عنها جميعا؛ كيف لا و هو الذي لا تحلو حياتنا إلا به ،كما لا يحلو إبريق شاي
بلا نعناع . ننتظر منه فقط أن يفتح يديه و صدره لأبناء حيه و دواره ، لينهلوا من
علمه الغزير ، وحنكته الاجتماعية، و حكمته البراقة، و إبداعاته الفياضة.
أود في الأخير أن أنصح من يحتك بالشيخ و لا
يعرفه جيدا ؛أن يأخذ حذره من أن يُغضبه، أو يدخل معه في نزال بالركل و الرفس،لا
لأن الشيخ سريع الغضب ـ حاشى لله ـ ولكن لأنك لا شك ـ عزيزي ـ ستخسر النزال، وهذا
لأن الشيخ حاصل على الحزام البني في
" فن الكراطي " ...!! ... اللهم إني
قد بلغت ، اللهم فاشهد...
تعليقات
إرسال تعليق