الممنوع
لا بد
لكل مجتمع من فضاءات يروح فيها عن نفسه، فيجعلها متنفسا يفرغ فيها أفراده
مكبوتاتهم الدفينة، يتنشقون فيها الهواء النقي لتتجدد في دمائهم ذرات الأكسجين
الطرية ،و إن لم يتوفر هذا الفضاء في مجتمع ما ،صار عرضة لأمراض نفسية و اجتماعية
و أحيانا عضوية تلزمها متابعة علاجية طويلة؛أغلب المجتمعات تنفق الملايين لتصنع
لنفسها هذا الفضاء الذي لا يتجاوز في غالب
الأحيان بضعة أمتار مربعة.ولكن بلدتنا الشريفة حباها الله بفضاء طبيعي رحب، لم
ننفق عليه الكثير، بل وجدناه جاهزا لا يحتاج إلا القليل من العناية و الترميم. كيف
تعاملنا معه ؟ و ما هو واجبنا اتجاهه؟
كان هذا
المكان و لا زال رائعا وديعا يأخذ الألباب، إنه غابة تحيط بحي المزار جنوبا و غربا
،غابة بكثبان رملية يكسوها غطاء نباتي لا بأس به، و تنتعش فيها أشجار الكاليبتوس العملاقة ذات الجذع العريض، و
الأفنان الكثيرة التي تغطيها أوراق طويلة الشكل، ورائحة عطرة تُطرب الأنوف، نسمي
هذا الفضاء المزاري الفريد "ديفاندي" ،و يقال أنه مشتق من الكلمة
الفرنسية " defender" التي تعني "ممنوع أو مُحصن"؛ لم نكن ندري القصة
الحقيقية من وراء هذه التسمية،ولا السبب الذي يجعل هذا الفضاء الطبيعي ممنوعا من
أي شيء، من الزيارة أو اللعب أو الاستجمام أو تزجية الوقت،لم يكن اسمه يمنعنا من
فعل كل ذلك و أكثر،فديفاندي هو المتنفس الوحيد لأطفال المزار، لإذكاء مواهبهم و
قدراتهم الإبداعية في شتى المجالات ،خصوصا في الرياضة و الصيد.
لقد كان " ديفاندي " مكانا مناسبا
لمعسكر تدريبي للأطفال على فنون القتال و تكتيكات الحرب، كان بحق مكانا لتعلم
الكثير و الكثير.تعلمنا فيه المبادئ الأولية لتسلق الأشجار، كما مارسنا خلال أيام
فصل الربيع الماطرة رياضة التزحلق على الرمال الذهبية بدل الثلوج البيضاء. لم تسلم
منا طيور الحمام البري التي اتخذت من الأشجار بيوتا،فقد تتبعناها إلى عقر دارها و
أخذنا بيضها و صغارها... أقمنا مباريات في مصارعة العقارب ...وَ...وَ...و للحديث
بقية في حلقة خاصة إن شاء الله.
لقد تخرج من فضائنا متعدد التخصصات هذا ثلاثة
أنواع من الرجال؛ طائفة منهم حصلوا على شواهدهم العلمية من كلية الشريعة، و غادروا
من غير رجعة، بعد أن احتضنهم هذا الفضاء الهادئ و الرحب بأريحية عالية و قلب
صاف،فاتخذوه لأنفسهم مكانا للاستذكار و مراجعة المقررات و تلاوة الآيات و الأشعار،
وبضعهم لازال في النادر من الأوقات يزوره. الطائفة الثانية لم تحصل ـ كما الثالثة
ـ على شواهد علمية؛ ولكن حصلت على أجسام لينة طرية بعد تداريب على تطويعها و
تمرينها ،لتصبح قادرة على أداء حركات بهلوانية مثيرة للدهشة و الذهول، طائفة
عصامية لم تلقى أي إشراف أو تأطير، ولكن صنعت لنفسها مجدا لا يشق له غبار؛ ففي
الوقت الذي حاول الكثيرون من أقرانهم تجاوز الحدود البحرية للوطن و اعتناق أوروبا
بكل الوسائل التي تبرر لهم غايتهم، وقدموا من أجل ذلك الغالي و النفيس. استطاع
هؤلاء بعد أن اعتكفوا التدرب في "ديفاندي" و انقطعوا عن العالم، أن
يقنعوا أوربا وصديقاتها بحاجتها إليهم؛ فطلبت غير ما مرة أن يشرفوها و يستعرضوا
أمام شعوبها أجسامهم التي تتراقص كالثعابين على أنغام موسيقية فولكلورية تُرغم
المنصت على الرقص و إن لم يفهم المقال،فصاروا سفراء للمزار في بلدان كثيرة
كإسبانيا و تركيا و انجلترا و الولايات المتحدة الأمريكية.
الطائفة الثالثة جماعة ممن لا هم لهم إلا
التجارة في الممنوعات وناهبات العقول، و التي للأسف لازالت ترتاد المكان و تتخذه
ملجأ و مخبأ من رجال الأمن.لسنا ممن يريد أن يوشم على بلدتنا الحبيبة كونها مرتعا
لهذا النوع من التجارة و الأعمال، ولا نريد لبني جلدتنا أن تختلط بدمائهم تلك
السموم القاتلة. فعسى الله أن يهدينا جميعا لما فيه خير !
إن كانت هذه الغابة
الجميلة في حاجة إلى مقابل منا فما هو إلا القليل من العناية و الاهتمام، لنحافظ
على أشجارها المتعانقة أغصانها والوارفة ظلالها ،لنحافظ على جمالها و بهائها، ؛ كما
سبق و أن فعل مجموعة من الشباب ـ نهاية
التسعينيات و أوائل الألفية الثالثة ـ و الذين كانوا واعين بدورهم في الحفاظ على
هذا الموروث الطبيعي الذي يتوسطه موروث ثقافي لا يقل عنه أهمية، فمن هؤلاء من أحاط
المنطقة بسياج حديدي لحمايته من الرعي الجائر و جور الجيران، ومنهم من قام بترميم
الولي الصالح " سيدي صالح" ؛فزينوه بشجيرات و نباتات ذات ألوان و أشكال
شتى، تسر الناظرين، كما ازدانت بأبيات من الشعر وقّعها "الشاعر المجهول"
و لم يكن هذا الشاعر المتواضع حتى في ذكر اسمه إلا "إبراهيم أيت الموذن"
اللاعب المزاري المشهور الملقب بـ " بِتِهِ" . فصار المكان قصرا شامخا
يتحدى عوادي الزمان ، أحاطت به حديقة فسيحة تخالها منتزها بظلال أشجارها التي ذبل
أغلبها لتوالي السنين و الأيام. فيا شباب الحي شمروا عن سواعدكم و تسلموا المشعل
قبل فوات الأوان !
" ديفاندي" أيها العالم الشامخ الحاضن لكل
أًصناف البشر ، لن ينسى قريب أو بعيد فضلك و بصمتك و إن طال الغياب و مهما طال
الزمان!!!
تعليقات
إرسال تعليق